الإدارة المتأرجحة : الوجه المظلم للفشل القيادي وتداعياته على المؤسسات المعاصرة

جدة – ماهر عبدالوهاب
أكد دكتور فهد بن ريحان الخبير في الدراسات الفكرية والمهتم بالشأن الوطني … بأن بيئات العمل المعاصرة تشهد انتشاراً متزايداً لنمط إداري يتجاوز في خطورته الأنماط التقليدية للقيادة السلبية،هذا النمط الذي يمكن وصفه بـ”الإدارة المتأرجحة”، والذي يتميز بغياب البوصلة الداخلية وعدم القدرة على الثبات على موقف أو رؤية، مما يخلق حالة من الارتباك المؤسسي المزمن ويقوض أسس الاستقرار والنمو.
وتكمن خطورة هذا النمط القيادي في طبيعته المراوغة التي تجعل من الصعب تشخيصه ومواجهته، فبينما تظهر القيادة المتسلطة بوضوح من خلال ممارسات قمعية صريحة، تتخفى الإدارة المتأرجحة خلف قناع من المرونة الزائفة والانفتاح الشكلي، مما يجعلها أكثر استعصاءً على التشخيص والعلاج.
في ظل التحول الاستراتيجي الذي تشهده المملكة العربية السعودية مع رؤية الوطن الطموحة ” 2030 ” ، التي جعلت من أولوياتها إرساء قيم العدل والمساواة والالتزام بالأنظمة ودعم الكفاءات، تبرز خطورة الإدارة المتأرجحة كعائق حقيقي أمام تحقيق هذه الطموحات.
فالرؤية الوطنية تتطلب قيادات إدارية واضحة المسار، ثابتة المبادئ، قادرة على ترجمة التوجهات الاستراتيجية إلى واقع ملموس، ومؤهلة لاستشراف التحديات وصناعة الفرص المستقبلية.
المظاهر السلوكية للإدارة المتأرجحة:
– التذبذب القراري: رقصة الفوضى المؤسسية
يمثل التذبذب المستمر في القرارات السمة المحورية للإدارة المتأرجحة، فالقائد المتأرجح يصدر قراراً اليوم ثم يتراجع عنه غداً، ويتبنى توجهاً استراتيجياً ثم ينقلب عليه بسرعة مذهلة. هذا النمط السلوكي يخلق حالة من عدم اليقين تجعل من المستحيل على الموظفين التخطيط أو التنفيذ بفعالية.
الدراسات التنظيمية، تشير إلى أن التكلفة الخفية للتذبذب القراري تتجاوز بكثير التكلفة المباشرة للقرارات الخاطئة. فالمؤسسة التي تعاني من إدارة متأرجحة تستنزف مواردها في التكيف المستمر مع التغييرات العشوائية، فتفقد تدريجياًقدرتها على بناء ورسم مسارات استراتيجية واضحة و متسقة.
هذا التذبذب يتناقض جذرياً مع متطلبات رؤية” 2030 “
التي تستند إلى خطط تنفيذية دقيقة ومؤشرات أداء واضحة، تتطلب استمرارية في التنفيذ واتساقاً في القرارات لتحقيق المستهدفات الطموحة في المواعيد المحددة.
– الاستجابة المفرطة للتأثيرات الخارجية
يتميز القائد المتأرجح بحساسية مفرطة للتأثيرات الخارجية، فهو “إمعة” بالمعنى المؤسسي للكلمة. تتغير مواقفه وقراراته بتغير المؤثر الأخير الذي تعرض له، سواء كان اجتماعاً مع مسؤول أعلى، أو محسوب عليه، أو رأياً سمعه من أحد المقربين.
هذه الاستجابة المفرطة تجعل المؤسسة رهينة لعوامل خارجية متغيرة، وتحرمها من القدرة على تطوير هوية مؤسسية متماسكة أو استراتيجية مستقلة. كما تخلق حالة من الإرهاق التكيفي لدى الموظفين الذين يضطرون للتعامل مع توجهات متناقضة تتغير بوتيرة لا يمكن التنبؤ بها.
– التناقض بين القول والفعل
من المظاهر البارزة للإدارة المتأرجحة الفجوة الواسعة بين الخطاب والممارسة. فالقائد المتأرجح قد يتبنى خطاباً تقدمياً عن التمكين والشفافية والمشاركة، لكن ممارساته الفعلية تناقض هذا الخطاب بشكل صارخ.
هذا التناقض يخلق حالة من الازدواجية المؤسسية، حيث تتطور لغة رسمية منفصلة عن الواقع الفعلي. مع مرور الوقت، يفقد الخطاب المؤسسي مصداقيته تماماً، ويتحول إلى مجرد طقوس لغوية فارغة لا علاقة لها بالممارسات اليومية.
في ضوء رؤية 2030 التي تؤكد على مبادئ الشفافية والنزاهة، يصبح هذا التناقض أكثر خطورة، لأنه يقوض ثقة الموظفين في كونهم جزءًا لايتجزأ من البناء والمساهمة في التنمية ، ويخلق فجوة بين الطموحات المعلنة والممارسات الفعلية.
– التهرب من المسؤولية والمساءلة
يتقن القائد المتأرجح فن التملص من المسؤولية وتجنب المساءلة. فهو يفوض السلطة دون متابعة، ليس بهدف تمكين فريقه بل للتنصل من المسؤولية. وعند وقوع الأخطاء، يسارع إلى إلقاء اللوم على الآخرين، بينما ينسب النجاحات لنفسه.
هذا النمط السلوكي يقوض مبدأ المساءلة الذي يمثل حجر الزاوية في أي نظام إداري فعال. كما يخلق ثقافة مؤسسية سامة تشجع على تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم بدلاً من التعلم من الأخطاء والتطوير المستمر.
– الجذور النفسية والتنظيمية للإدارة المتأرجحة
البنية النفسية للقائد المتأرجح:تكشف الدراسات النفسية أن القيادة المتأرجحة غالباً ما تنبع من تركيبة نفسية تتسم بالهشاشة الداخلية وضعف تقدير الذات. فالقائد المتأرجح يفتقر إلى الثقة بقدراته وحكمه، مما يجعله عرضة للتأثر المفرط بآراء الآخرين وتقييماتهم.
هذه الهشاشة النفسية تتجلى في حساسية مفرطة للنقد، وخوف مرضي من الرفض، ورغبة قهرية في إرضاء الجميع. هذه السمات تجعل من المستحيل على القائد اتخاذ قرارات صعبة أو الثبات على موقف قد يثير استياء البعض.
– الثقافة المؤسسية المعززة للتأرجح
لا تنشأ الإدارة المتأرجحة في فراغ، بل تتفاعل مع ثقافة مؤسسية تعزز هذا النمط وتكافئه. فالمؤسسات التي تكافئ الطاعة العمياء وتعاقب المبادرة، وتفضل الولاء الشخصي على الكفاءة المهنية، تخلق بيئة خصبة لازدهار القيادة المتأرجحة.
في هذه البيئات، يتم اختيار القادة وترقيتهم بناءً على قدرتهم على “مسايرة التيار” والتكيف مع توجهات الإدارة العليا، بغض النظر عن مدى تناقضها. هذه المعايير تفرز قيادات متأرجحة تفتقر للرؤية والثبات، وتجيد فقط فن البقاء والمناورة.
– أنظمة الترقية والاختيار المعيبة
تلعب أنظمة اختيار القيادات وترقيتها دوراً محورياً في انتشار ظاهرة الإدارة المتأرجحة. فالمؤسسات التي تعتمد معايير غير موضوعية في الترقية، مثل الأقدمية أو العلاقات الشخصية، تجد نفسها مع قيادات تفتقر للكفاءات الأساسية اللازمة للقيادة الفعالة.
هذه القيادات، التي تدرك في قرارة نفسها أنها وصلت لمناصبها لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة، تعاني من “متلازمة المحتال” – الشعور الداخلي بعدم الاستحقاق والخوف المستمر من افتضاح أمرها. هذه المتلازمة تعزز التأرجح وعدم الحسم كآلية دفاعية لتجنب اتخاذ قرارات قد تكشف محدودية القدرات.
– التداعيات المؤسسية للإدارة المتأرجحة في ضوء رؤية 2030
_ إعاقة التحول الوطني وتأخير المشاريع الاستراتيجية:
تمثل الإدارة المتأرجحة عائقاً حقيقياً أمام تحقيق مستهدفات رؤية 2030، التي تعتمد على تنفيذ مبادرات طموحة ومشاريع استراتيجية ضمن أطر زمنية محددة. فالقيادة المتأرجحة تؤدي إلى تأخير المشاريع، وزيادة تكاليفها، وتراجع جودة مخرجاتها، مما يهدد المسار التنموي بأكمله.
الدراسات تشير إلى أن 75% من عمل المدير الفعال يتركز في صقل وتوجيه الموظفين وتطوير قدراتهم وتحفيزهم، وهي المهام التي يفشل فيها القائد المتأرجح بشكل ذريع. هذا الفشل ينعكس مباشرة على قدرة المؤسسات على تحقيق مستهدفاتها ضمن برامج التحول الوطني.
_ تقويض مبادئ العدل والمساواة
تؤكد رؤية 2030 على أهمية إرساء مبادئ العدل والمساواة في بيئات العمل، لكن الإدارة المتأرجحة تقوض هذه المبادئ بشكل جوهري. فالقائد المتأرجح يتخذ قرارات متناقضة في المواقف المتشابهة، ويطبق القواعد بشكل انتقائي حسب الأهواء والعلاقات الشخصية.
هذه الممارسات تخلق بيئة عمل يسودها الشعور بالظلم وعدم المساواة، مما يؤثر سلباً على الروح المعنوية والالتزام التنظيمي. كما تتعارض مع التوجه الوطني نحو تعزيز النزاهة والشفافية في جميع مستويات العمل المؤسسي.
_إهدار الكفاءات الوطنية:
تضع رؤية 2030 تنمية رأس المال البشري وتمكين الكفاءات الوطنية في صلب أولوياتها، لكن الإدارة المتأرجحة تمثل آلية فعالة لإهدار هذه الكفاءات وتهميشها. فالقائد المتأرجح يفشل في خلق بيئة محفزة للإبداع والابتكار، ويفتقر للقدرة على اكتشاف المواهب وتنميتها.
الدراسات تؤكد أن الكفاءات المتميزة هي الأكثر حساسية لجودة القيادة، والأسرع مغادرة للبيئات التي تفتقر للوضوح والاستقرار. هذا يعني أن المؤسسات التي تعاني من الإدارة المتأرجحة ستواجه صعوبة متزايدة في استقطاب الكفاءات الوطنية والاحتفاظ بها، مما يعيق جهود التوطين وبناء اقتصاد المعرفة.
_ تقويض الالتزام بالأنظمة والتعليمات:
تشدد رؤية 2030 على أهمية الالتزام بالأنظمة والتعليمات كأساس للحوكمة الرشيدة، لكن الإدارة المتأرجحة تخلق ثقافة من الالتفاف على الأنظمة والتلاعب بها. فالقائد المتأرجح يطبق الأنظمة بشكل انتقائي، ويتجاهلها حين تتعارض مع مصالحه أو توجهاته اللحظية.
هذه الممارسات تقوض احترام الأنظمة في نفوس الموظفين، وتشجع على ازدواجية المعايير والتحايل على القواعد. كما تتعارض مع الجهود الوطنية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد الإداري بكافة أشكاله.
– استراتيجيات مواجهة الإدارة المتأرجحة في سياق التحول الوطني:
_على المستوى الفردي: استراتيجيات البقاء والازدهار، للمهنيين الذين يعملون تحت إشراف قيادات متأرجحة، ثمة استراتيجيات متقدمة يمكن تبنيها للحفاظ على الفعالية المهنية والمساهمة في تحقيق أهداف رؤية 2030:
* الارتباط بالرؤية الوطنية*: ربط العمل اليومي بأهداف رؤية 2030 ومستهدفاتها، مما يوفر بوصلة داخلية تعوض غياب التوجيه القيادي.
* التوثيق المنهجي*: توثيق جميع التوجيهات والقرارات بشكل منهجي، والحصول على موافقات مكتوبة للمبادرات المهمة، مما يوفر حماية من التغييرات المفاجئة في المواقف.
بناء تحالفات إيجابية: تكوين شبكة دعم من الزملاء الملتزمين بتحقيق أهداف الرؤية الوطنية، مما يوفر استقراراً نفسياً في بيئة العمل المضطربة.
التطوير المهني المستمر: الاستثمار في تطوير المهارات والمعرفة بما يتوافق مع متطلبات اقتصاد المعرفة الذي تستهدفه رؤية 2030.
المبادرة الاستباقية: تقديم مبادرات تتوافق مع برامج التحول الوطني، مدعومة بدراسات وأدلة تصعب على القائد المتأرجح رفضها.
_ على المستوى التنظيمي: نحو تحول مؤسسي يواكب رؤية 2030.
*معالجة ظاهرة الإدارة المتأرجحة تتطلب تحولاً مؤسسياً شاملاً يتوافق مع متطلبات رؤية 2030
مواءمة نظم اختيار القيادات مع متطلبات التحول الوطني: تطوير معايير موضوعية لاختيار القيادات وترقيتها، تركز على القدرات التحويلية والالتزام بتحقيق مستهدفات الرؤية الوطنية.
برامج التطوير القيادي المتكاملة: تصميم برامج تطوير قيادي تستند إلى نموذج القيادة التحويلية، وتعزز مهارات التخطيط الاستراتيجي وإدارة التغيير.
ربط نظم التقييم والحوافز بمؤشرات الأداء الوطنية: تطوير نظم تقييم تربط بين الأداء الفردي والمؤسسي وإسهامه في تحقيق مستهدفات برامج التحول الوطني.
تعزيز ثقافة المساءلة والشفافية: بناء ثقافة مؤسسية تعزز قيم المساءلة والشفافية، وتكافئ الالتزام بالأنظمة والتعليمات.
تمكين الكفاءات الوطنية: تطوير مسارات مهنية واضحة للكفاءات الوطنية، وتوفير فرص حقيقية للتطور والترقي بناءً على الإنجاز والكفاءة.
وفي النهاية،القيادة المتوازنة كمتطلب أساسي لتحقيق رؤية 2030، تمثل الإدارة المتأرجحة تحدياً وجودياً للمؤسسات السعودية في مرحلة التحول الوطني الطموح. فرؤية 2030 تتطلب قيادات إدارية متوازنة، تجمع بين الثبات على المبادئ والقيم، والمرونة في التنفيذ والتطبيق.
فالقيادة المتوازنة تمتلك بوصلة داخلية واضحة مستمدة من الرؤية الوطنية، وتتمتع بالمرونة الكافية للتكيف مع المتغيرات دون فقدان الاتجاه العام. هذا التوازن الدقيق بين الثبات والمرونة هو جوهر القيادة التحويلية القادرة على تحقيق مستهدفات رؤية الوطن الطموحة 2030.
مع التأكيد على أن 75% من عمل المدير الفعال يتركز في توجيه الموظفين وتطوير قدراتهم، وتبرز أهمية الاستثمار في بناء قيادات وطنية قادرة على تحرير طاقات الموارد البشرية وتوجيهها نحو تحقيق الطموحات الوطنية. هذه القيادات ستكون الضمانة الحقيقية لتحويل رؤية 2030 من وثيقة استراتيجية إلى واقع ملموس يغير حياة المواطنين ويعزز مكانة المملكة إقليمياً وعالمياً.
ختاماً، يمكن القول إن معالجة ظاهرة الإدارة المتأرجحة ليست ترفاً تنظيمياً، بل ضرورة استراتيجية لضمان استمرار التنمية المستدامة التي تسعى إليها المملكة. فالإدارة المتوازنة هي المحرك الرئيسي للتحول، والضامن الأساسي لتحقيق الاستدامة والازدهار في هذا العهد الزاهر .