مقالات وآراء

العـتب: وجـعٌ أنيــق

✍🏻منيـرا العتـيبـي /كـاتبة سعـوية
[email protected]

هناك، في أعماق الروابط الإنسانية، حيث تتشابك الخيوط الدقيقة للعواطف، يبرز العتب كظاهرة فريدة، أنيقة، كأنها ألمٌ لطيفٌ خفيف على حافة الجرح.
ليس العتب مجرد كلمة تُلقى في لحظة غضب، بل هو وجع يتجلى بأناقة، ينساب بلطف كالنسيم الذي يهز أوراق الشجر دون أن يقطعها. إنه ذلك الشعور الذي يرتدي ثوباً من الحرير، يخفي تحت طياته ندوباً عميقة.

في هذا المقال، سنرسو معاً على شواطئ هذا المفهوم الرقيق، نغوص في أعماقه، ونبحر بين أمواجه الأدبية والنفسية، محاولين فك رموزه الخفية التي تجعله وجعاً جميلاً يتجاوز حدود المشاعر العادية.

ولنبدأ الرحلة من الميناء الأول: أصـل العتب اللغـوي.
ينبع “العتب” من جذر عربي يعبر عن لوم رقيق يحمل في طياته المودة، لا يقصد الإيذاء بل التصحيح والإصلاح بلطف. أما حين يتحول إلى “وجع أنيق”، فيصبح تعبيراً فنياً رقيقاً ترسمه الأرواح المتشابكة، أو لوحةً من الألم الجميل تنبض بالشوق والارتباط العميق.

وإذا ما حملتنا الأمواج قليلاً نحو الضفـة الـنفسيـة،
نجد أن العتب – حين يختلط الحب بالوجد – يُجسد توتراً داخلياً راقياً بين مشاعر الحب وخوف الفقد. ليس انفجاراً عاطفياً مفاجئاً كالغضب الذي يحرق كل شيء في طريقه، بل هو كقطرة ماء تتساقط ببطء على صخرة، تشق طريقها نحو الأعماق دون إعلان.

وإن أبحرنا في دبـلومـاسية القلـوب الرقيقة، في علاقاتنا اليومية – سواءٌ كانت صداقةً أم حبّاً أم قرابةً – نرى أن العتاب يأتي كتذكيرٍ رقيق بأننا بشر، عرضةٌ للخطأ والنسيان. لكنه حنونٌ في جوهره؛ إذ يحافظ على كرامة الطرفين: فالمعاتب لا يُذل، والمُعاتَب لا يُهان.
نراه كجلسة دبلوماسية حميمة بين القلوب، حيث تتحول الكلمات إلى سيوف مغلفة بالحرير، لا تُجرح ولا تُؤذي، بل تُلمِّس الجرح بلطفٍ لتشفيه.

وعندما تحملنا أمواج الأدب القديم إلى أعماق أكثر، يبرز العتاب بقوةٍ وجمال، متأرجحاً بين كلاسيكية الوفاء وحداثة التجريد. فنجد صداه تارةً في قول أبي نواس:
على قَدْرِ الهَوَى يَأْتِي العِتَابُ
وَمَنْ أَعْطَى القَلِيلَ فَقَدْ أَذْنَبَا

وتارةً أخرى في قصيدة المتنبي الشهيرة بعتاب سيف الدولة الحمداني:
وَمَا كُلُّ مَنْ يُؤْتَى لَهُ الْحَقُّ يَقْبَلُهُ
وَلَا كُلُّ مَنْ يُعْطَى الْوَفَاءَ يَفِي بِهِ
هنا يتحول العتاب إلى وجعٍ أنيق، ليس لجرمٍ كبير، بل لخشية الصديق على صديقه من غدر الزمن أو تقصير الوفاء. وحينها يكتب العتاب رسالةً قصيرة تُروى في لحظات الفراق، مفادها:
«يا صاحبي، ألم تكن درعي وأنا درعك؟»

فإذا ما واصلنا الإبحار نحو شواطئ الشعـر المعـاصر، فيصبح العتاب لوحةً تجريدية، تتدفق فيها الكلمات كالألوان المتداخلة، تخلق صوراً تجمع بين الألم والجمال. وعند نزار قباني مثلاً، يتحول العتاب إلى دمعة ترفض السقوط، فتبتسم ابتسامةً حزينة، حين يقول:
«وانسي العِتابَ فقد نَسيتُ عتابي»

وإن أدرنا الدفة أخـيراً إلى زمننا السريع، نرى مشاعر العتب تُختزل إلى رموز تعبيرية (emoji) وكلمات مقتضبة تختبئ خلف الشاشات اللامعة. هنا يأتي العتاب كنداء أخير للعودة إلى الاتصال الأصيل.
إن رُفِق به، واستُقبل بلطف الفهم المتبادل، تحوّل إلى جسر معلق من روابط الود والوفاء، يعبر بنا من ضفة الجرح إلى شاطئ الشفاء، ويبني لنا علاقة أقوى وأعمق وأكثر صلابة مما كانت عليه.

وبعد أن عبرنا كل هذه الأمواج – من دبلوماسية القلوب الرقيقة، مروراً بشواطئ الشعر القديم والمعاصر، ووصولاً إلى زمننا السريع الذي يختزل المشاعر – يبرز أمامنا، كمنارة في الأفق،
السـؤال الجـوهـري:
هل يظل العتاب دوماً ذلك الوجع الأنيق الذي يرتدي ثوب الحرير؟
أم أنه، في لحظات الإفراط، يخلع قناعه ليكشف عن نصلٍ بارد يقطع خيوط الثقة؟
نعم، حين يُكرَّر دون أن يُسمع، أو يُرمى دون أن يُفهم، سيفقد رونقه ويتحول إلى جرح ينزف بصمت. يذكّرنا هذا بأن الأناقة الحقيقية للعتاب لا تكمن في صيغته الرقيقة فحسب، بل في قدرته على أن يُقابل بقلب مفتوح وروح مستعدة للاستماع بعمق يتجاوز الأذنين إلى أعماق الضمير.

وفي الـختـام، ونحن نرسو أخيراً على شاطئ التأمل،
يبقى العتاب ضيفاً نبيلاً يرتدي ثوباً من حرير الرقة قبل أن يقرع باب الروح.
يأتي ليذكّرنا بأن القلب لا يزال حيّاً، محبّاً، ينبض بالوفاء والصدق، كصوتٍ هادئ يهمس في أذن الذاكرة:
«ما زلتُ أهتمُّ، ولهذا أُعاتب».

حـتماً، ولا بُـد، ستُكتب في حضن هذا العتاب الراقي أعذب فصول قصتنا الإنسانية…
تلك الفصول التي لن تُغلق إلا بصفحة عنوانها:
عُدنا إلى أنفسنا وإلى بعضنا أعمق حبّاً، أوسع رحمة، وأجمل مما كنا نتصوّر يوماً أن نكون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com