الدكتور أحمد عبدالغني الثقفي 

الشخصنة: حين يتحوّل النقاش من الفكرة إلى صاحبها

الدكتور احمد الثقفي

تظهر الشخصنة في كل مساحة يلتقي فيها البشر بالكلمة أو الموقف أو الرأي. هي انحرافٌ خفي يبدأ حين ينتقل المرء من نقد الفكرة إلى نقد صاحبها، ومن محاورة المضمون إلى مهاجمة المتحدث. تنفصل الشخصنة عن المنطق لأنها تبتعد عن جوهر الموضوع، وتستبدله بتركيزٍ مباشر على السمات الشخصية، أو النيات المفترضة، أو الحياة الخاصة، أو الخلفية الاجتماعية. ومع الوقت تتحول إلى أسلوبٍ ينهي النقاش بدل أن يطوره، ويغلق الأبواب بدل أن يفتحها، ويضعف الثقة بدل أن يبنيها.

تتخذ الشخصنة أشكالًا متعددة، فقد تظهر في صورة تعليق يبدو عابرًا لكنه يلمس الشخص لا الفكرة، أو في ردّ يُقحم صفات المتحدث بدل تحليل قوله، أو في اتهام نياتٍ لم تُصرّح، أو في مقارنة بين أشخاص بدل مقارنة بين أفكار. ويزداد تأثيرها حين تدخل ميادين العمل أو التعليم أو الإعلام، لأن تلك البيئات تعتمد على الحوار، واحترام السياق، والقدرة على النظر إلى المضمون بعيدًا عن الذات والأهواء.

في النقاشات المهنية، الشخصنة تعني الاستغناء عن الحجة. فحين يجد الطرف الضعيف نفسه غير قادر على تقديم أدلة أو توضيحات، يلجأ إلى تحويل مسار الحديث من موضوعه الأصلي إلى صاحب الرأي، فيظهر النقاش وكأنه صراع بين الأشخاص لا صراع بين الأفكار. وهنا تتعطل البيئة الصحية التي تقوم على التقييم الموضوعي، وتضعف الثقة بين الفرق، ويتحوّل الرأي المهني إلى مساحة امتداد للمشاعر، أو المخاوف، أو الرغبات الذاتية.

أما في العلاقات الإنسانية، فالشخصنة تهدد معنى الأمان العاطفي. فبدل الاستماع إلى المشكلة، يُقحم الفرد ذاته، وبدل مناقشة السلوك، يُعاد تفسيره على أنه انتقاص من قيمته. وهنا تتضاعف الأخطاء ويتسع أثرها، لأن الإنسان بطبيعته حساس تجاه صورته ومعاني تقديره. بينما الحوار الناضج يفصل بين الشخص والسلوك، ويعطي لكل مساحة تقديرها الخاصة دون خلط.

وفي الإعلام الرقمي تتسع دائرة الشخصنة بسبب سرعة الانتشار، وميل الجمهور إلى الأحكام السريعة، وتراجع التحقق من المصادر. تظهر الشخصنة في كل تعليق يعيد تفسير رأي الكاتب عبر افتراض نياته، أو في كل هجوم يتجاوز النص إلى حياته الخاصة، أو في كل نقاش يزداد ضجيجًا كلما قلّت فيه المعرفة. وتصبح السمعة معرضة للتشويه، لأن التركيز يذهب إلى الأفراد بدل الذهاب إلى الحقائق.

للخروج من الشخصنة، يحتاج الفرد إلى قدر من الانضباط الفكري الذي يسمح له بأن يرى الفكرة كما هي، دون أن يُدخل ذاته في كل تفصيل. ويتطلب ذلك مهارة التحكم في رد الفعل، والتمييز بين النقد الموجه للفكرة والنقد الذي يتجاوزها، والوعي بأن الاختلاف لا يعني الخصومة، وأن الحوار ليس ساحة منافسة بل مساحة توسيع للفهم.

وتسهم المؤسسات في الحد من الشخصنة حين تضع معايير واضحة للحوار المهني، وتدعم القرار القائم على البيانات، وتشجع التحليل الموضوعي بدل الانطباعات، وتُدرب فرقها على التواصل الذي يوازن بين الأدب والوضوح. أما المجتمعات الثقافية فتحتاج إلى تعزيز لغة تحترم الاختلاف، وتمنح كل رأيٍ فرصة للظهور، ما دام ملتزمًا بالقيم واللياقة ومسؤولية الكلمة.

الشخصنة نقيض المعرفة، لأنها تقطع الطريق عن التفكير وتحوّل العقل إلى مرآة للذات فقط. والتعامل معها لا يكون بتجاهلها دائمًا، بل بفهم أسبابها، وتطوير أساليب تحاصر أثرها، وبناء بيئة تعطي الفكرة قيمتها وتضع الإنسان في مقامه اللائق دون أن تُحمله ما ليس من شأنه. 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com