مقالات وآراء

حين يتنازع القلب مع الذاكرة”

فاطمه الحربي
كان في الحياة زمن صافٍ، زمن يشبه صباحًا طويلاً لم يعرف الغيوم. كانت تفاصيله بسيطة، تملؤها الضحكات الصغيرة واليقين بأن من نحبهم هم ملاذنا، وأن الأيام تُشبه بعضها بسلامها. لم يكن في القلب خوف من الغياب، ولا في الروح مساحة لخذلان. كنا نعيش على ثقة أن النور الذي يسكن بعض الوجوه سيبقى مشعًا إلى الأبد.

ثم جاؤوا… أولئك الذين كانوا لنا أكثر من بشر. كانوا النور حين أظلمت الطرقات، والدفء حين ارتجفت القلوب. منحناهم مكانًا في الأعماق لا يبلغه أحد، وأحطناهم بالصدق كما يُحاط القلب بالشغف. وللحظة، ظننا أن حضورهم كافٍ ليجعل للحياة معنى ثابتًا لا يزول.

لكن النور انطفأ من حيث لم نتوقع. الخذلان جاء من الأبواب التي تركناها مفتوحة بلا حذر. والفقد هبط على أرواحنا كعاصفة تقتلع جذور الأمان. لم نعد كما كنا؛ لم تعد الضحكات خفيفة، ولا الذكريات صافية. حتى الأماكن التي ضحكنا فيها صارت شاهدة على غيابهم، والأغاني التي أحببناها تحوّلت إلى طعنات متجددة.

بعدهم، أصبحت الذاكرة مسرحًا للألم. كل مشهد يعيد نفسه ببطء موجع: كلمة قالوها في لحظة صدق، نظرة حملت وعدًا لم يُوفَ به، يدٌ أُفلتت حين كنا في أشد الحاجة. وتبقى النفس في حوار داخلي لا يهدأ:
لو أنني أستطيع أن أنسى… لو أنني أملك أن أفقد الذاكرة، لأمحو هذا الثقل الذي ينهش أيامي.

لكن الحقيقة أكثر قسوة: الذاكرة هي ما يبقينا أحياء. هي اللعنة والهوية معًا. نحن مَن كنا قبلهم، ومَن صرنا بعدهم. نحن الفرح الذي أهدونا إياه، والخذلان الذي تركوه في أعقابهم.

وبين التمنّي والواقع، ندرك أننا لا نملك سوى أن نتعلم كيف نحمل هذا الألم دون أن يبتلعنا، وكيف نمشي بخطوات مثقلة نحو غدٍ لا نعرف إن كان سيضيء. وربما يكمن الخلاص لا في فقدان الذاكرة، بل في أن نتعلم أن بعض الأنوار لم تكن سوى سراب، وأن بعض الظلال، مهما ثقلت، تُجبرنا على البحث عن نورنا الخاص.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى