الاحتيال عبر بوابة الرسم حين تتحول الموهبة إلى فخّ رقميّ مُحكم


الدكتور أحمد عبدالغني الثقفي
في السنوات الأخيرة، ومع ازدهار الذكاء الاصطناعي وتطوّر قدرات التزييف البصري، ظهر نوع جديد من الاحتيال لا يعتمد على الروابط المريبة أو الرسائل المالية المباشرة، بل يتسلل من باب يُفترض أن يكون نقيًا: الرسم.
لم يعد الاحتيال اليوم مقصورًا على سرقة الحسابات البنكية أو انتحال الهويات، بل أصبح يمتد إلى مجالات إبداعية، يُستخدم فيها الفن كستار، وتُستغل فيها رغبة الناس في رؤية أعمال فنية تحمل وجوههم، أو تقدير موهبة شاب يدّعي أنه “رسام”.
هذا النوع من الاحتيال الذكي ينتشر بسرعة، ويتخفّى بخفة، ويهدد سمعة أشخاص، ويستدر عواطف آخرين، وقد يجرّهم إلى فقدان معلوماتهم وصورهم وأموالهم دون أن يشعروا.
⸻
أولًا: آلية الاحتيال عبر “الرسم”
تبدأ العملية عادةً بخطوة بريئة جدًا:
حساب مجهول يرسل رسالة لطيفة أو يضع منشورًا يطلب فيه “صورة ترسمها”، أو يعرض لوحة جاهزة يدّعي أنه رسمها خصيصًا للشخص المستهدف.
لكن خلف هذا السيناريو الظاهري توجد بنية احتيالية معقّدة تتضمن:
1. سرقة الصور الشخصية
يقوم المحتال أو “البوت” بجمع الصور من الحسابات العامة، أو استخدام صورة أخذت بمرور الوقت، أو حتى التقاطها من صورة جماعية، ثم يعيد توليدها عبر الذكاء الاصطناعي ليبدو وكأنها مرسومة يدويًا.
2. إنتاج “رسمة” مقنعة بالذكاء الاصطناعي
يستخدم المحتال أدوات لتوليد الرسومات بدقة عالية خلال ثوانٍ.
النتيجة: صورة تشبه الرسومات اليدوية لكنها في الحقيقة نسخ آلي لا يمتّ للموهبة بصلة.
3. الإغراق بالتفاعل لجذب الضحية
يكتب المحتال عبارات مُنمّقة، ويضع رموزًا عاطفية، ويُشعر الشخص أن “رسمته لقيت إعجابًا” وأنها “هدية بسيطة”، فقط ليدخل في دائرة التواصل.
4. استدراج للطلب المدفوع أو لمشاركة بيانات
بعد أن تُعجب الضحية بالرسم، تبدأ الرسائل من نوع:
– “أسعدني دعمك”
– “عندي رسوم أخرى مدفوعة”
– “أحتاج تحويل بسيط لأكمل اللوحة”
أو:
– “أرسل صورة أوضح”
لتبدأ مرحلة جمع بيانات يمكن لاحقًا استغلالها.
5. استخدام الحسابات كطُعم لإيقاع آخرين
بعض المحتالين يطلبون “منشن” لأناس آخرين، فيظن الشخص أنه يساعد رسّامًا مبتدئًا، بينما هو يسهّل على المحتال توسيع دائرة الضحايا، خصوصًا عبر أدوات الـAPI التي تتيح للحسابات الوهمية التغريد آليًا.
⸻
ثانيًا: لماذا هذا النوع من الاحتيال خطير؟
1. لأنه يخدع الناس عبر بوابة عاطفية
الرسم فعل جميل، هادئ، يشبه الورد والهدية، وليس شبيهًا بأي نشاط خبيث.
لذا تنخفض مقاومة الإنسان، ويشعر بأنه أمام شخص لطيف أو موهبة تستحق الدعم.
2. لأنه يستغل الصورة الشخصية
استخدام الصور عبر الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى:
– تشويه السمعة
– تركيب الصور على سياقات غير محترمة
– استخدام الوجه في محتوى ضار
– انتحال الشخصية
3. لأنه يجمع بيانات لا تُقدّر بثمن
مجرد إرسال صورة جديدة، أو فتح محادثة، أو الضغط على رابط، قد يتيح:
– تتبع الحساب
– اختراقات صغيرة تتراكم
– استخدام الحساب لاحقًا للإيقاع بآخرين
4. لأنه يتخفّى خلف مظلة “الإبداع”
على عكس الاحتيال المالي المباشر، هذا النوع يختبئ خلف:
رسمة، قلم رصاص، كلمة لطيفة، وابتسامة مُزيّفة.
لذلك يصعب اكتشافه مبكرًا.
⸻
ثالثًا: من يقف خلف هذه الحسابات؟
حسب تحليلات خبراء أمن المعلومات، معظم هذا النوع من الحسابات:
• بوتات تُدار من خارج المملكة
مجموعات منظمة تسرق الصور وتستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى “مقنع”.
• هويات مزيفة تُدار عبر أدوات تلقائية
الحساب يبدو طبيعيًا، لكنه قائم على سكربتات تنشر مئات الرسومات يوميًا.
• أفراد يسعون لابتزاز لاحق
بعد فترة من التفاعل، قد يحاول المحتال الحصول على أموال أو يستغل المعلومات لابتزاز بسيط أو كبير.
⸻
رابعًا: كيف ينجح المحتال؟
النجاح هنا مبني على ثلاثة عوامل:
1. عاطفة الناس تجاه الفن
الفن لغة قريبة للقلوب، وأغلب الناس تحب رؤية نفسها في عمل جميل.
2. رغبة البعض في دعم “المواهب الناشئة”
وهذا جسر مثالي للمحتالين للعب على وتر الدعم والمساندة.
3. انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي
الرسمة تنتج خلال 10 ثوانٍ، وتبدو جميلة ومؤثرة.
⸻
خامسًا: أمثلة واقعية مما ظهر في منصات التواصل
الصور التي تظهر في المنشورات – كما في الأمثلة المرفقة – تُظهر رسومات لعدد من الشخصيات العامة مثل إعلاميين، فنانين، مسؤولين، وشخصيات اجتماعية، وجميعها مرسومة بالأسلوب نفسه، بخطوط متطابقة، ودرجات رصاص متشابهة بشكل مُريب، مما يكشف أنها مُنتَجة عبر ذكاء اصطناعي أو عبر قوالب جاهزة.
ظهرت شكاوى عديدة تتحدث عن:
• سرقة صور أشخاص واستخدامها دون إذن
• رسومات مُكررة بأسلوب واحد
• حسابات تطلب دعمًا ماليًا بعد “الهدية”
• رسائل تُستدرج الضحية لمعرفة مزيد من معلوماتها
ومع ذلك، الخطورة الأكبر أنّ البعض يقبل الرسمة بدافع اللطف، ولا يدرك أنه أصبح جزءًا من سلسلة احتيالية واسعة.
⸻
سادسًا: كيف نحمي أنفسنا من هذا النوع من الاحتيال؟
1. لا ترسل أي صورة لأي حساب مجهول
حتى لو بدا لطيفًا أو موهوبًا.
2. لا تتجاوب مع الرسائل التي تطلب دعمًا أو تحويلًا
فنان موهوب لا يبتز ولا يستدرج.
3. تأكد من هوية الحساب
– هل لديه سابقة أعمال حقيقية؟
– هل لديه فيديو يثبت قدرته؟
– هل يتكرر أسلوب الرسم بشكل مريب؟
4. لا تضع “منشن” لأي شخص آخر لحساب مجهول
فهذا يجعل الآخرين عرضة أيضًا.
5. فعّل أدوات الخصوصية في حساباتك
إخفاء الصور العامة يقلل المخاطر.
⸻
سابعًا: دور المجتمع في مقاومة هذا الأسلوب
المشكلة ليست “رسمة”، بل هندسة اجتماعية تستخدم الفن غطاءً.
إذا تجاهل الناس هذه الحسابات، وأبلغوا عنها، وتوقفوا عن إعادة نشرها، سيضيق الخناق عليها، وتفقد جاذبيتها، ويصبح المجتمع قادرًا على حماية نفسه من مخاطر أكبر.
⸻
ثامنًا: الخلاصة
الاحتيال عبر “باب الرسم” ليس بريئًا كما يبدو.
إنه نموذج حديث من الاحتيال الرقمي، يجمع بين الذكاء الاصطناعي، وانتحال الهويات، واستغلال العاطفة.
ومع اتساع أدوات التزييف والتوليد الآلي، ستزداد هذه الأساليب تطورًا وخطورة.
لذلك يجب أن نكون يقظين، واعين، لا ننخدع بابتسامة قلم رصاص، ولا نُسلّم صورنا أو معلوماتنا لحسابات مجهولة تحمل مظهر “فنّان”.
الفن الحقيقي لا يحتاج إلى طرق ملتوية
ولا إلى استغلال
ولا إلى خداع
بل ينمو بالنقاء والصدق والجهد.
ومن يدّعي الفن وهو يخدع الآخرين
لا يرسم وجوهًا…
بل يرسم فخاخًا.



